فصل: من فوائد ابن كثير في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن كثير في الآية:

قال رحمه الله:
وقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} يصح أن يكون الضمير في قوله: {عَنْهَا} عائدا إلى الجنة، فيكون معنى الكلام كما قال حمزة وعاصم بن بَهْدلَة، وهو ابن أبي النَّجُود، فأزالهما، أي: فنجَّاهما. ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين، وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادةُ {فأزلهما} أي: من قبيل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أي: بسببها، كما قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوك؛ ولهذا قال تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي: من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة.
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي: قرار وأرزاق وآجال {إِلَى حِينٍ} أي: إلى وقت مؤقت ومقدار معين، ثم تقوم القيامة.
وقد ذكر المفسرون من السلف كالسُّدِّي بأسانيده، وأبي العالية، ووهب بن مُنَبِّه وغيرهم، هاهنا أخبارا إسرائيلية عن قصة الحَيَّة، وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته، وسنبسط ذلك إن شاء الله، في سورة الأعراف، فهناك القصة أبسط منها هاهنا، والله الموفق.
وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا: حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب، حدثنا علي بن عاصم، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم رجلا طُوَالا كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سَحُوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يَشْتَد في الجنة، فأخذت شَعْرَه شجرةٌ، فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم، مني تَفِرُّ! فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب، لا ولكن استحياء».
قال: وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القومشي سنة أربع وخمسين ومائتين، حدثنا سليم بن منصور بن عمار، حدثنا علي بن عاصم، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما ذاق آدم من الشجرة فَرَّ هاربا؛ فتعلقت شجرة بشعره، فنودي: يا آدم، أفِرارًا مني؟ قال: بل حَيَاء منك، قال: يا آدم أخرج من جواري؛ فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مِثْلَك ملء الأرض خَلْقًا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين».
هذا حديث غريب، وفيه انقطاع، بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب، رضي الله عنهما.
وقال الحاكم: حدثنا أبو بكر بن بَالُويه، عن محمد بن أحمد بن النضر، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عَمَّار بن معاوية البَجَلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وقال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا رَوح، عن هشام، عن الحسن، قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة، فأخرج آدم معه غصنًا من شجر الجنة، على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الإكليل من ورق الجنة.
وقال السدي: قال الله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} فهبطوا فنزل آدم بالهند، ونزل معه الحجر الأسود، وقبضة من ورق الجنة فبثه بالهند، فنبتت شجرة الطيب، فإنما أصل ما يجاء به من الهند من الطيب من قبضة الورق التي هبط بها آدم، وإنما قبضها آدم أسفا على الجنة حين أخرج منها.
وقال عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أهبط آدم من الجنة بِدَحْنا، أرض الهند.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد عن ابن عباس قال: أهبط آدم، عليه السلام، إلى أرض يقال لها: دَحْنا، بين مكة والطائف.
وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدَسْتُمِيسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن عدي، عن ابن عمر، قال: أهبط آدم بالصفا، وحواء بالمروة.
وقال رجاء بن سلمة: أهبط آدم، عليه السلام، يداه على ركبتيه مطأطئًا رأسه، وأهبط إبليس مشبكا بين صابعه رافعا رأسه إلى السماء.
وقال عبد الرزاق: قال مَعْمَر: أخبرني عَوْف عن قَسَامة بن زهير، عن أبي موسى، قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض، عَلَّمه صنعة كل شيء، وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.
وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها» رواه مسلم والنسائي.
وقال فخر الدين: اعلم أن في هذه الآيات تهديدًا عظيما عن كل المعاصي من وجوه:
الأول: أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي، قال الشاعر:
يا ناظرا يرنو بعيني راقد ** ومشاهدا للأمر غير مشاهد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ** درج الجنان ونيل فوز العابد

أنسيت ربك حين أخرج آدما ** منها إلى الدنيا بذنب واحد

قال فخر الدين عن فتح الموصلي أنه قال: كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها. فإن قيل: فإذا كانت جنة آدم التي أسكنها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء، فكيف يمكن إبليس من دخول الجنة، وقد طرد من هنالك طردًا قدريًّا، والقدري لا يخالف ولا يمانع؟ فالجواب: أن هذا بعينه استدل به من يقول: إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء، وقد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية، وأجاب الجمهور بأجوبة، أحدها: أنه منع من دخول الجنة مكرما، فأما على وجه الردع والإهانة، فلا يمتنع؛ ولهذا قال بعضهم: كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية إلى الجنة، وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة، وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض، وهما في السماء، ذكرها الزمخشري وغيره. وقد أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك، فأجاد وأفاد. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{فأزلهما الشيطان عنها} الهمزة: كما تقدم في أزل للتعدية، والمعنى: جعلهما زلا بإغوائه وحملهما على أن زلًا وحصلا في الزلة، هذا أصل همزة التعدية.
وقد تأتي بمعنى جعل أسباب الفعل، فلا يقع إذ ذاك الفعل.
تقول: أضحكت زيدًا فما ضحك وأبكيته فما بكى، أي جعلت له أسباب الضحك وأسباب البكاء فما ترتب على ذلك ضحكه ولا بكاؤه، والأصل هو الأول، وقال الشاعر:
كميت يزل اللبد عن حال متنه ** كما زلت الصفواء بالمتنزل

معناه: فيما يشرح الشراح، يزل اللبد: يزلقه عن وسط ظهره، وكذلك قوله: يزل الغلام الخف عن صهواته: أي يزلقه.
وقيل أزلهما: أبعدهما.
تقول: زل عن مرتبته، وزل عني ذاك، وزل من الشهر كذا: أي ذهب وسقط، وهو قريب من المعنى الأول، لأن الزلة هي سقوط في المعنى، إذ فيها خروج فاعلها عن طريق الاستقامة، وبعده عنها.
فهذا جاء على الأصل من تعدية الهمزة.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وحمزة: فأزالهما، ومعنى الإزالة: التنحية.
وروي عن حمزة وأبي عبيدة إمالة فأزالهما.
والشيطان: هو إبليس بلا خلاف هنا.
وحكوا أن عبد الله قرأ، فوسوس لهما الشيطان عنها، وهذه القراءة مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، فينبغي أن يجعل تفسيرًا، وكذا ما ورد عنه وعن غيره مما خالف سواد المصحف.
وأكثر قراءات عبد الله إنما تنسب للشيعة.
وقد قال بعض علمائنا: إنه صح عندنا بالتواتر قراءة عبد الله على غير ما ينقل عنه مما وافق السواد، فتلك إنما هي آحاد، وذلك على تقدير صحتها، فلا تعارض ما ثبت بالتواتر.
وفي كيفية توصل إبليس إلى إغوائهما حتى أكلا من الشجرة أقاويل: قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور: شافههما بدليل، وقاسمهما، قيل: فدخل إبليس الجنة على طريق الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء، وقيل: دخل في جوف الحية.
وذكروا كيف كانت خلقة الحية وما صارت إليه، وكيف كانت مكالمة إبليس لآدم.
وقد قصها الله تعالى أحسن القصص وأصدقه في سورة الأعراف وغيرها.
وقيل: لم يدخل إبليس الجنة، بل كان يدنو من السماء فيكلمهما.
وقيل: قام عند الباب فنادى.
وقيل: لم يدخل الجنة بل كان ذلك بسلطانه الذي ابتلى به آدم وذريته، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» وقيل: خاطبه من الأرض ولم يصعد إلى السماء بعد الطرد واللعن، وكان خطابه وسوسة، وقد أكثر المفسرون في نقل قصص كثير في قصة آدم وحواء والحية، والله أعلم بذلك، وتكلموا في كيفية حاله حين أكل من الشجرة، أكان ذلك في حال التعمد، أم في حال غفلة الذهن عن النهي بنسيان، أم بسكر من خمر الجنة، كما ذكروا عن سعيد بن المسيب.
وما أظنه يصح عنه، لأن خمر الجنة، كما ذكر الله تعالى، {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} إلا إن كانت الجنة في الأرض، على ما فسره بعضهم، فيمكن أن يكون خمرها يسكر.
والذين قالوا: بالعمد، قالوا: كان النهي نهي تنزيه، وقيل: كان معه من الفزع عند إقدامه ما صير هذا الفعل صغيرة.
وقيل: فعله اجتهادًا، وخالف لأنه تقدم الإشارة إلى الشخص لا إلى النوع، فتركها وأكل أخرى.
والاجتهاد في الفروع لا يوجب العقاب.
وقيل كان الأكل كبيرة، وقيل: أتاهما إبليس في غير صورته التي يعرفانها، فلم يعرفاه، وحلف لهما أنه ناصح.
وقيل: نسي عداوة إبليس، وقيل: يجوز أن يتأول آدم {ولا تقربا} أنه نهي عن القربان مجتمعين، وأنه يجوز لكل واحد أن يقرب، والذي يسلك فيما اقتضى ظاهره بعض مخالفة تأويله على أحسن محمل، وتنزيه الأنبياء عن النقائص.
وسيأتي الكلام على ما يرد من ذلك، وتأويله على الوجه الذي يليق، إن شاء الله.
وفي المنتخب للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصه: منعت الأمة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا الفضيلية من الخوارج، قالوا: وقد وقع منهم ذنوب، والذنب عندهم كفر، وأجاز الإمامية إظهار الكفر منهم على سبيل التقية، واجتمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ، فلا يجوز عمدًا ولا سهوًا، ومن الناس من جوز ذلك سهوًا وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمدًا واختلفوا في السهو.
وأما أفعالهم فقالت الحشوية: يجوز وقوع الكبائر منهم على جهة العمد.
وقال أكثر المعتزلة: بجواز الصغائر عمدًا إلا في القول، كالكذب.
وقال الجبائي: يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل.
وقيل: يمتنعان عليهم، إلا على جهة السهو والخطأ، وهم مأخوذون بذلك، وإن كان موضوعًا عن أمتهم.
وقالت الرافضة: يمتنع ذلك على كل جهة.
واختلف في وقت العصمة فقالت الرافضة: من وقت مولدهم، وقال كثير من المعتزلة: من وقت النبوة.
والمختار عندنا: أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتة، لا الكبيرة ولا الصغيرة، لأنهم لو صدر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة، لعظيم شرفهم، وذلك محال.
ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة، ولئلا يجب زجرهم وإيذاؤهم، ولئلا يقتدى بهم في ذلك، ولئلا يكونوا مستحقين للعقاب، ولئلا يفعلون ضد ما أمرون به، لأنهم مصطفون، ولأن إبليس استثناهم في الاغواء.
انتهى ما لخصناه من المنتخب.
والقول في الدلائل لهذه المذاهب، وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين.
عنها: الضمير عائد على الشجرة، وهو الظاهر، لأنه أقرب مذكور.
والمعنى: فحملهما الشيطان على الزلة بسببها.
وتكون عن إذ ذاك للسبب، أي أصدر الشيطان زلتهما عن الشجرة كقوله تعالى: {وما فعلته من أمري} {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} وقيل: عائد على الجنة، لأنها أول مذكور، ويؤيده قراءة حمزة وغيره: فأزالهما، إذ يبعد فأزالهما الشيطان عن الشجرة.
وقيل: عائد على الطاعة، قالوا بدليل قوله: {وعصى آدم ربه} فيكون إذ ذاك الضمير عائدًا على غير مذكور، إلا على ما يفهم من معنى قوله: {ولا تقربا} لأن المعنى: أطيعاني بعدم قربان هذه الشجرة.
وقيل: عائد على الحالة التي كانوا عليها من التفكه والرفاهية والتبوّء من الجنة، حيث شاءا، ومتى شاءا، وكيف شاءا بدليل، {وكلا منها رغدًا} وقيل: عائد على السماء وهو بعيد.
{فأخرجهما مما كانا فيه} من الطاعة إلى المعصية، أو من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا، أو من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب، أو رضوان الله، أو جواره.
وكل هذه الأقوال متقاربة.
قال المهدوي: إذا جعل أزلهما من زل عن المكان، فقوله: {فأخرجهما مما كانا فيه} توكيد.
إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة، انتهى.
والأولى أن يكون بمعنى كسبهما الزلة لا يكون بإلقاء.
قال ابن عطية: وهنا محذوف يدل عليه الظاهر تقديره: فأكلا من الشجرة، ويعني أن المحذوف يتقدر قبل قوله: {فأزلهما الشيطان} ونسب الإزلال والإزالة والإخراج لإبليس على جهة المجاز، والفاعل للأشياء هو الله تعالى.
{وقلنا اهبطوا} قرأ الجمهور بكسر الباء، وقرأ أبو حياة: اهبطوا بضم الباء، وقد ذكرنا أنهما لغتان.
والقول في: {وقلنا اهبطوا} مثل القول في: {وقلنا يا آدم اسكن} ولما كان أمرًا بالهبوط من الجنة إلى الأرض، وكان في ذلك انحطاط رتبة المأمور، لم يؤنسه بالنداء، ولا أقبل عليه بتنويهه بذكر اسمه.
والإقبال عليه بالنداء بخلاف قوله: {وقلنا يا آدم اسكن} والمخاطب بالأمر آدم وحوّاء والحية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، أو هؤلاء وإبليس، قاله السدي عن ابن عباس، أو آدم وإبليس، قاله مجاهد، أو هما وحواء، قاله مقاتل، أو آدم وحواء فحسب.
ويكون الخطاب بلفظ الجمع وإن وقع على التثنية نحو: {وكنا لحكمهم شاهدين} ذكره ابن الأنباري، أو آدم وحواء والوسوسة، قاله الحسن، أو آدم وحواء وذريتهما، قاله الفراء، أو آدم وحواء، والمراد هما وذريتهما، ورجحه الزمخشري قال: لأنهما لما كانا أصل الأنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم.
والدليل عليه قوله: {قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدوّ} ويدل على ذلك قوله: {فمن تبع هداي} الآية، وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم، انتهى.
وفي قول الفراء خطاب من لم يوجد بعد، لأن ذريتهما كانت إذ ذاك غير موجودة.
وفي قول من أدخل إبليس معهما في الأمر ضعف، لأنه كان خرج قبلهما، ويجوز على ضرب من التجوز.
قال كعب ووهب: أهبطوا جملة ونزلوا في بلاد متفرقة.
وقال مقاتل: أهبطوا متفرقين، فهبط إبليس، قيل بالأبلة، وحواء بجدّة، وآدم بالهند، وقيل: بسرنديب بجبل يقال له: واسم.
وقيل: كان غذاؤه جوز الهند، وكان السحاب يمسح رأسه فأورث ولده الصلع.
وهذا لا يصح إذ لو كان كذلك لكان أولاده كلهم صلعًا.
وروي عن ابن عباس: أن الحية أهبطت بنصيبين.
وروى الثعلبي: بأصبهان، والمسعودي: بسجستان، وهي أكثر بلاد الله حيات.
وقيل: بيسان.
وقيل: كان هذا الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا.
وقيل: لما نزل آدم بسرنديب من الهند ومعه ريح الجنة، علق بشجرها وأوديتها، فامتلأ ما هناك طيبًا، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام.
وذكر أبو الفرج بن الجوزي في إخراجه كيفية ضربنا صفحًا عن ذكرها، قال: وأدخل آدم في الجنة ضحوة، وأخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، والنصف خمسمائة عام، مما يعد أهل الدنيا، والأشبه أن قوله: {اهبطوا} أمر تكليف، لأن فيه مشقة شديدة بسبب ما كانا فيه من الجنة، إلى مكان لا تحصل فيه المعيشة إلا بالمشقة، وهذا يبطل قول من ظن أن ذلك عقوبة، لأن التشديد في التكليف يكون بسبب الثواب.
فكيف يكون عقابًا مع ما في هبوطه وسكناه الأرض من ظهور حكمته الأزلية في ذلك، وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في جنة ونار.
وكانت تلك الأكلة سبب هبوطه، والله يفعل ما يشاء.
وأمره بالهبوط إلى الأرض بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: {قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} إن كان المخاطبون آدم وحواء وذريتهما، كما قال مجاهد، فالمراد ما عليه الناس من التعادي وتضليل بعضهم لبعض، والبعضية موجودة في ذريتهما، لأنه ليس كلهم يعادي كلهم، بل البعض يعادي البعض.
وإن كان معهما إبليس أو الحية، كما قاله مقاتل، فليس بعض ذريتهما يعادي ذرية آدم، بل كلهم أعداء لكل بني آدم.
ولكن بتحقق هذا بأن جعل المأمورون بالهبوط شيئًا واحدًا وجزّؤوا أجزاء، فكل جزء منها جزء من الذين هبطوا، والجزء يطلق عليه البعض فيكون التقدير: كل جنس منكم معاد للجنس المباين له.
وقال الزجاج: إبليس عدوّ للمؤمنين وهم أعداؤه.
وقيل معناه: عداوة نفس الإنسان له وجوارحه، وهذا فيه بعد، وهذه الجملة في موضع الحال، أي اهبطوا متعادين، والعامل فيها اهبطوا.
فصاحب الحال الضمير في اهبطوا، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها، واجتماع الواو والضمير في الجملة الإسمية الواقعة حالًا أكثر من انفراد الضمير.
وفي كتاب الله تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} وليس مجيئها بالضمير دون الواو شإذا، خلافًا للفراء ومن واقفه كالزمخشري.
وقد روى سيبويه عن العرب كلمته: فوه إلى فيّ، ورجع عوده على بدئه، وخرجه على وجهين: أحدهما: أن عوده مبتدأ وعلى بدئه خبر، والجملة حال، وهو كثير في لسان العرب، نظمها ونثرها، فلا يكون ذلك شإذا.
وأجاز مكي بن أبي طالب أن تكون الجملة مستأنفة إخبارًا من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدوّ، فلا يكون في موضع الحال، وكأنه فر من الحال، لأنه تخيل أنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأمورًا به، أو كالمأمور.
ألا ترى أنك إذا قلت قم ضاحكًا كان المعنى الأمر بإيقاع القيام مصحوبًا بالحال فيكون مأمورًا بها أو كالمأمور، لأنك لم تسوّغ له القيام إلا في حال الضحك وما يتوصل إلى فعل المأمور إلا به مأمور به؟ والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك، لأن الفعل إذا كان مأمورًا به من يسند إليه في حال من أحواله، لم تكن تلك الحال مأمورًا بها، لأن النسبة الحالية هي لنسبة تقييدية لا نسبة إسنادية.
فلو كانت مأمورًا بها إذا كان العامل فيها امرًا، فلا يسوغ ذلك هنا، لأن الفعل المأمور به إذا كان لا يقع في الوجود إلا بذلك القيد، ولا يمكن خلافه، لم يكن ذلك القيد مأمورًا به، لأنه ليس داخلًا في حيز التكليف، وهذه الحال من هذا النوع، قل يلزم أن يكون الله أمر بها، وهذه الحال من الأحوال اللازمة.
وقوله: {لبعض} متعلق بقوله: {عدوّ} واللام مقوية لوصول عدوّ إليه، وأفرد عدوّ على لفظ بعض أو لأنه يصلح للجمع، كما سبق ذكر ذلك عند الكلام على بعض وعلى عدوّ حالة الإفراد.
{ولكن في الأرض مستقر} مبتدأ وخبر.
لكم هو الخبر، وفي الأرض متعلق بالخبر، وحقيقته أنه معمول للعامل في الخبر، والخبر هنا مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، ولا يجوز: {في الأرض} أن يتعلق بمستقر، سواء كان يراد به مكان استقرار كما قاله أبو العالية وابن زيد، أو المصدر، أي استقرار، كما قاله السدي، لأن اسم المكان لا يعمل، ولأن المصدر الموصول لا يجوّز بعضهم تقديم معموله عليه، ولا يجوز في الأرض أن يكون خبرًا، ولكم متعلق بمستقرّ لما ذكرناه، أو في موضع الحال من مستقر، لأن العامل إذ ذاك فيها يكون الخبر، وهو عامل معنوي، والحال متقدمة على جزأي الإسناد، فلا يجوز ذلك، وصار نظير: قائمًا زيد في الدار، أو قائمًا في الدار زيد، وهو لا يجوز بإجماع. اهـ.